الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 12:38 مساءً
يتوقع المجتمع من الفرد في عصرنا الحالي أن يكون سعيداً ومتفائلاً، وهي توقعات اجتماعية تؤثر تأثيرًا بليغًا على كيفية عيشنا والخيارات التي نتخذها.
يشير بعض علماء النفس إلى تحول مفهوم السعادة إلى عمل شاق، مما خلق ما أسميه بالسعادة الإلزامية، وهي توقع المجتمع في أن نسعى جميعًا للوصول إلى السعادة.
وهو من شأنه أن يعرقل سعينا للحصول على السعادة، ولهذا السبب ولأني باحث في التشاؤمية الفلسفية أناقش موضوع أننا لو رغبنا في حياة أفضل، يمكننا الوصول إلى ذلك إن اتخذنا من التشاؤم منهجاً فلسفياً.
في حين يُعرف التشاؤم في المجال النفسي بأنه ميل إلى التركيز على أسوأ النتائج، إلا أن التشاؤمية الفلسفية لا تُعنى في جوهرها بالنتائج، بل هي منهجية تزعم أنها تفسر منبع المعاناة وأسباب استشرائها وتفشيها.
حتى لو اتخذت موقفًا مبتهجًا ونافعًا في الحياة (فلا أكون متشائمًا نفسيًا)، فلا يزال بإمكاني اتباع منهج التشاؤمية الفلسفية لأني قد استمر على الاعتقاد بأن الوجود مليء بالمعاناة.
الفزع يحيط بنا
يعد بعضهم أن الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر فيلسوف كئيب، يبحث في الفزع الوجودي ومواضيع مقلقة وظلامية وغارقة في الكآبة، كما ارتبط اسمه بالتشاؤمية ولكن هذا يعود إلى عدم فهم أعماله فهماً سليماً.
في عام ١٩٤٥ ألقى سارتر محاضرة بعنوان الوجودية هي الإنسانية، أراد فيها أن يبدد هذه الانطباعات الخاطئة، فناقش الوجودية بمفهومها الصحيح وهي فلسفة تبحث في الحرية وتحمُل مسؤولية اختياراتنا في الحياة، فنحن أحرار – أو بتعبير وجودي، حكم علينا أن نكون أحراراً.
يؤمن سارتر بأن الناس لا يملكون جوهراً في البدء، ولذلك علينا خلق الجوهر وبناءه بأنفسنا، وهذا لا شك يسبب مشاعر الفزع واليأس في بعضنا، ولكن لا داعي إلى ذلك.
التعاطف مع الكائنات الحية
وكما في حالة الوجودية، فإن اليأس والفزع ليس بالضرورة من سمات الفلسفة التشاؤمية.
إن مفهوم التشاؤمية متأصل في تاريخ الفلسفة، منذ عهد الإغريق القدامى. وتحكي أحد الأساطير القديمة أن ساتير سيلينوس كشف للملك ميداس أن أفضل خيار لأي إنسان هو ألا يولد أبداً وأن ثاني أفضل خيار هو الموت المبكر.
ولكن عدّ فلاسفة أن الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر آرثر شوبنهاور أول كاتب غربي معاصر بحث في التشاؤمية بحثاً منهجياً.
وتستند فلسفة شوبنهاور التشاؤمية على ركيزتي التعاطف والاهتمام لجميع الناس، ولنكون أكثر دقة يمتد هذا التعاطف إلى جميع الكائنات الحية وليس محصورًا على البشر، وهذه واحدة من أهم الفروقات بين التشاؤمية والوجودية.
إدانة الوجود
نجد في فلسفة شوبنهاور التشاؤمية إدانة صريحة للوجود، فيقول: "إن مصير أغلب البشر هو العمل، والقلق، والكدح، والكرب طوال حياتهم"، وكذلك يقول: "يمكن تصور الحياة حدث مزعج لا فائدة منه في وسط النعيم الهادئ للعدم".
ويقول أيضًا مؤكدًا على إدانته للوجود: "ما الحياة إلا جحيم، والناس فيها إما أرواح تعذَب وإما شياطين".
وبناءَ على ذلك يرى شوبنهاور أن العدم مفضل على الوجود، مما يعني أنه لو كان هناك خيارًا بين الوجود والعدم لرجحت كفة العدم. وهو بذلك يوافق سيلينوس في الرأي ولكن من المهم استيعاب ذلك أنه بمجرد وجودنا في الحياة يجب أن نتخذ موقفًا في الحياة يبقينا بعيدًا عن الرغبات والشهوات، لأنه من صالحنا أن نتوقف عن السعي للامتلاك، ومن ذلك السعي للحصول على السعادة.
بعيداً عن تدمير الحياة
لا يقصد شوبنهاور، في أي حال من الأحوال، ولا أي فيلسوف من فلاسفة التشاؤمية، تعزيز فكرة انقراض البشر -وهو تدمير الحياة تدميرًا مباشرًا أو غير مباشر- كما يظن بعضهم ظنًا خاطئًا.
في آخر الأمر، تعتمد فلسفة شوبنهاور التشاؤمية كلياً على آرائه الميتافيزيقية حول طبيعة الوجود نفسه - وجوهرها هو ما أسماه بالإرادة.
والهدف هنا، أنه يكفي أن نفهم أن الإرادة نوع من القوة التي تحدد وتكيف وتحفز كل شيء في هذا الوجود، ومن ثم فإن كل شيء قد أوجد ليحقق رغبات لا تنتهي، ولن يصل إلى الرضا الدائم.
نظرة تفاؤلية
ولأن العالم الذي نعيش فيه يجبرنا على التعايش مع الجائحات، والقضايا الاقتصادية، والحروب، والاحتباس الحراري، يصبح السعي إلى السعادة حِملاً ثقيلاً، فليس من المعقول النظر بمنظار التفاؤل دائمًا.
وحتى لو قررنا اتخاذ النظرة التفاؤلية، فإن موقف التشاؤمية حيال هذا الأمر هو أننا موجودين وهاجس الرغبة والتملك لا يفارقنا أبدًا، وعلى هذا الأساس فإن مبدأ السعادة الإلزامية يتعارض مع جوهر الوجود (الإرادة عند شوبنهاور) لأن الرضا في هذه الحالة صعب المنال، وبالتالي تتعارض آمالنا بالسعادة مع طبيعة الحياة.
ولهذا السبب تصبح الإيجابية هنا سامة، عندما يطالبنا المجتمع بأن نكون سعداء ونُلام عندما نكون خلاف ذلك.
فلو أحسسنا بأننا لا نقدر على الوصول إلى السعادة الإلزامية، فإننا قد نحس بأننا غير أكفاء وفاشلين.
إن مفهوم التشاؤم يزودنا بالأدوات الفلسفية اللازمة لفهم أعمق لمكاننا في هذا الوجود، ويساعدنا على اتخاذ موقف عقلاني ينادي برفض فكرة السعي المحموم لتحقيق السعادة.