الإثنين , 07 أكتوبر 2024 - 4 ربيع الثاني 1446 هـ 7:24 مساءً
لنفترض أنّك لا تشغل جسدك، وما أنت سوى جزء من تجربة علمية يجريها عبقري شرير.
استؤصل دماغك من جسدك استئصالًا دقيقًا ووُضع في وعاء من المغذيات على رف مختبر من المختبرات، ووصِلت النهايات العصبية في دماغك بحاسوب فائق يمدُّك بأحاسيس الحياة، فتحسب أنك تحيا داخل جسد حياة طبيعية.
ولكن هل ما زلت موجودًا؟ هل هذا الكيان يعود لك؟ وهل العالم الذي تعرفه هو من نسج خيالك أم هو وهم ابتكره هذا العالِم الشرير؟
قد يبدو هذا كابوسًا، ولكن هل تعلم علم اليقين أنّه غير صحيح؟ هل لك أن تثبت أنك لست دماغًا في وعاء؟
الشياطين المخادعة
طرح الفيلسوف هيلاري بتنام هذه التجربة الفكرية المشهورة «دماغ في وعاء»، في كتابه (العقل والحقيقة والتاريخ) الذي نُشِرعام ١٩٨١م، لكنها في الأساس نسخة محدثة من فكرة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عن العبقرية الشريرة من كتابه (تأمُّلات في الفلسفة الأولى) الذي نُشِر عام 1641م.
قد تبدو في أمثال هذه التجارب الفكرية الحذلقة – وربما القليل من الريبة– إلا أنها تخدم الفلاسفة في دراسة صحة معتقداتنا، ثمّ التبيّن من المعارف التي نكوّنها عن أنفسنا والعالم حولنا.
اقترح ديكارت أن أمثل طريقة لتحقيق ذلك هو أن نشكّك في كل شيء، ثمّ نبني معارفنا من نقطة الانطلاق تلك، وباستعماله لهذه المنهجية التشكيكية اِدَّعى أن السبيل الوحيد لبناء أساس معرفي راسخ هو التَّوصل إلى يقين لا شك فيه، وقال:
إذا أردت أن تكون مُخلصًا في بحثك عن الحقيقة، فيلزمك أن تشك في كل شيء ما أمكنك من الشكّ على الأقل مرة واحدة في حياتك.
يعتقد ديكارت أن في استطاعة الجميع توظيف منهجية التفكير الفلسفي هذه، ووصف في أحد أعماله مشهدًا يجلس فيه أمام مدفأة حطب في كوخه الخشبي وهو يدخن الغليون.
ثمّ يتساءل ما إن كان يستطيع الجزم بما لا يدع مجالًا للشك أن الغليون في يده وأن الخفّين على قدميه، ثمّ يشير إلى أن حواسه قد خدعته من قبل، وما كان خادعًا ولو في مرة واحدة لا يُعوّل عليه، لذلك لا يستطيع الجزم بأن حواسه مؤتمنة.
دوامة لا تنتهي
استقينا من منهجية ديكارت في التفكير الكثيرَ من التساؤلات التشكيكية التقليدية التي يحبذها الفلاسفة والتي من شاكلة: كيف لنا الجزم بأننا مستيقظون الآن ولسنا نغطُّ في سُبات عميق في عالم الأحلام؟
ويتعمَّق ديكارت أكثر في تحدي معارفنا المُفترضة متخيلًا وجود شيطان خبيث مُقتدر، يخدعنا ويوهمنا بأنَّنا نعيش في عالم يختلف تمامًا عن واقعنا.
سوف أفترض وجود شيطان خبيث خدّاع مُقتدر، وقد حشد كل طاقاته لخداعي.
ووظِفت تجربة «دماغ في وعاء» الفكرية وتحديات المنهج التشكيكي في الثقافة الشعبية، ومن أشهر الأمثلة المعاصرة فيلم ذا ماتركس (المصفوفة) الذي أُنتج عام ١٩٩٩، وفيلم المخرج كريستوفر نولان انسبشن (استهلال) الذي أُنتج عام ٢٠١٠م.
ويستطيع المُشاهد أن يسبر أغوار العالم المتخيَّل ويستكشف الأفكار الفلسفية بلا محاذير بمشاهدة عمل سينمائي لأي تجربة فكرية.
على سبيل المثال، حين نُشاهد ذا ماتركس، نتعاطف مع بطل القصة نيو (مثَّل الدور كيانو ريفز) الذي يكتشف أن العالم العادي الذي يعيش فيه ما هو إلا محاكاة حاسوبية، وأن جسده الضَّامر محفوظ داخل وعاء فيه سوائل تمدُّهُ بالحياة.
حتى لو لم نستطيع أن نجزم جزمًا قاطعًا بأن عالمنا موجود كما تُصوِره لنا الحواس، بدأ ديكارت فصل التأمل الثاني من كتابه ببصيص من الأمل.
نستطيع على الأقل التَّيقن بأننا نحن أنفسنا موجودون، لأن تشكيكنا في ذلك في كلّ مرّة يتطلب وجود ذات تُشكّك، ونشأت عن هذه النتائج المواسية التي توصل إليها ديكارت العبارة اللاتينية المشهورة كوجيتو إيرغو سوم، بمعنى "أنا أُفكِّر، إذن أنا موجود".
إذن، قد لا تكون أنت سوى دماغ في وعاء، وتجربتك مع العالم ليست سوى محاكاة حاسوبية برمجها عبقري شرير، ولكن ما تستطيع الجزم به هو أنَّك تُفكِّر!