الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 1:35 مساءً
مارك توين عن حكمة آبائنا
يُقال إن مارك توين قد أعاد النظر في حكمه على حكمة والديه:
"وأنا ابن السابعة عشرة ظننت والدي أحمقًا، لكني عندما بلغت الحادية والعشرين، عجبت لما تعلمه هذا العجوز في أربع سنوات."
تصف كلمات توين جانبًا مهمًا في حياتنا مفادها أن أحكامنا القاطعة هي مغزى حياتنا وتجاربنا، فتقديرنا لآبائنا وأمهاتنا يتزايد حين نصبح آباء وأمهات؛ لأننا ندرك حينئذ كم كانت شاقة تجاربهم في التربية، كنا نراهم خبراء أو أفظاظًا أو متذمرين أحيانًا، لكنهم كانوا حيارى، يتعلمون حيل التربية، ويطبقونها، فتصيب مرة وتخطئ أخرى.
ها نحن ندرك الآن كم كنا نجهلهم تمامًا كما يجهلنا أطفالنا الذين سيعيشون حياة لا تكاد تجد لنا فيها أثرًا. إننا ندرك أيضًا، كما أدرك توين، أننا حين كنا - لنفاد صبرنا في صغرنا - نعيب على والدينا ترددهم فيما بدا واضحًا لنا، إنما كان ذلك لجهلنا بعواقب المشكلات التي حيرتهم، فنظروا في حلولنا السهلة لـمشاكل حياتنا فرفضوها واستبعدوها؛ وها نحن رغمًا عنا نسير على خطاهم، ذاك الحل الناقص الذي أغضبنا في صغرنا يبدو لنا الآن حلًا بارعًا، وإبحارًا ماهرًا بين أهون الشرين وأخف الضررين بالأخلاق وضرورات التربية؛ الآن فقط نعي هذا بعد أن كبرنا وتعلمنا.
يرى توين أيضًا أننا كلما ازددنا علمًا، ازددنا علمًا بجهلنا، بل إن معرفتنا اليوم تزيد من جهل أمسنا وتزيد من خطئنا في الحكم على الآخرين بالجهل. كلما تعلمنا أدركنا جهلنا وعلم الآخرين، لا سيما الأكاديميون منا الذين تهتز ثقتهم بأنفسهم كلما تقدموا في الدكتوراه؛ فيتلاشى الطالب الجامعي المغرور الذي يظن أنه قد أحاط بكل شيء علمًا، ويحل محله الخريج الحييّ المتواضع الذي تعلم مدى اتساع المعرفة الإنسانية، ومدى استعصاء مشاكلها، ومدى علم الآخرين بالمجالات التي لم يتخصص في دراستها؛ ويعلم أن كثيرين في مجاله سبروا أغواره باجتهادهم وإبداعهم. ندرك أننا نتضاءل والعالم يتسع، وأن الطريق الذي بدأناه لا نهاية له.
يضيع شبابنا في الصغر؛ وتتجلى هذه العبارة حين ندرك كيف كنا نتخبط في ظلمات الجهل، مع علمنا آنذاك أن بعض مبادئنا ستتلاشى مع الكبر.