الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 11:53 صباحاً
يتساءل تشارلي وايت: ما غاية فلسفة الأخلاق؟ وكيف تسمو بنا؟
"هذا السؤال المطروح لا يُقصد به المعرفة النظرية، فغايتنا منه ليست معرفة مفهوم الفضيلة -وإلا لن يكون لسؤالنا مغزى - إنما مقصدنا كيف نحسّن أنفسنا". أرسطو، كتاب الأخلاق النيقوماخية.
ينبغي أن تعيننا دراسة الفلسفة الأخلاقية على الصلاح، وإدراك طرق تأثير أفكارنا وأفعالنا على الآخرين، والتأمل في سبل عيش حياة كريمة، ونأمل من أي فلسفة أخلاقية درسناها أن ترغبنا في إحسان التصرف حتى وإن صعب علينا ذلك. فإذا لم تحقق دراسة الفلسفة الأخلاقية أي نتيجة من تلك النتائج، فحق لنا أن نسأل عن جدواها.
يرى أرسطو أن الموسيقار لن ينال لقبه إلا باستعماله الآلات الموسيقية، ولنا أن نتساءل هنا عن غرض تعلم الموسيقى نظريًا دون استعمال الآلات الموسيقية، والأمر ذاته في النظريات الأخلاقية، فما فائدتها إنّ لم تنعكس على أفعالنا؟ وما الجدوى من النظرية إنْ فُصلت عن الممارسة؟
هل حققت الفلسفة الأخلاقية أهدافها؟
غالب الظن أن الفلسفة لا تلزمنا إن ابتعدت دراستها الأكاديمية عن غايتها الأولى وانفصلت عنها، وأرى أنّ خطورة هذا الأمر إن لامس الفلسفة الأخلاقية، فإن انفصل هذا المجال عن الممارسة فقد تتعرض سلوكيات الأجيال القدمة للخطر.
في المسلسل التلفزيوني الساخر (The Good Place) جسدت إحدى الشخصيات الرئيسة المشكلة الناشئة من فصل الفلسفة الأخلاقية عن ممارستها.
فشخصية تشيدي جسدت الفيلسوف العبقري المحب للقراءة والمعرفة في الفلسفة الأخلاقية عبر التاريخ، ولأنه كرّس حياته في تعلم الفلسفة الأخلاقية فقد دفعته معرفته الواسعة لأن يزن كل نتيجة ومسؤولية ومقصد في كل موقف يتعين عليه أن يقرر فيه، فتراه لا يقدر على اتخاذ أي قرارات أخلاقية. وتضحكنا المشاهد طوال المسلسل لأنها توضح الفجوة ما بين الفلسفة الأخلاقية وممارستها بأسلوب هزلي كما هي غالبًا ، وعلى سبيل المثال، عندما تعين على تشيدي التفكير في النتائج الأخلاقية لكل شيء في قائمة الطعام، عاد النادل للطاولة خمس مرات، ومع ذلك لم يقرر بعد ما سيطلبه. إن هذه الفجوة تثير تساؤلات حقة عن طريقة دراسة الفلسفة الأخلاقية وتدرسيها.
في عام 2009، نشر عالمي النفس إريك شويتزغيبل وجوشوا روست ورقة بحثية بعنوان "السلوك الأخلاقي لعلماء الأخلاق: آراء الزملاء" (العقل، المجلد 118، رقم 472، ص 1043-1059) وقد حددوا النتائج التي توصلوا إليها من دراسة سعت إلى تحليل تصورات السلوك الأخلاقي لفلاسفة الأخلاق ومقارنتهم بالأكاديميين من تخصصات مختلفة وغيرهم، ولخصوا النتائج التي توصلوا إليها على النحو التالي:
" في اجتماع قسم المحيط الهادئ عام 2007 للجمعية الفلسفية الأمريكية، استخدمنا الشوكولاتة لإغراء 277 من المارة لاستكمال استبانة مجهولة المصدر دون إعلامهم بموضوعها. وفي النسخة الأولى طُلب من المشاركين مقارنة السلوك الأخلاقي لعلماء الاخلاق، وغيرهم من فلاسفة غير مختصين بعلم الأخلاق، وغيرهم من خلفيات اجتماعية شبيهة. وفي النسخة الثانية من الاستبانة سُئل المشاركون أسئلة مقاربة، وهي عن السلوك الأخلاقي لعلماء الاخلاق في أقسامهم والذين رتبت أسماؤهم أبجديًا بعد أسماء المشاركين. احتوت كل من الاستبانة الأولى والثانية على أسئلة تهدف الى إجابة محددة عن علماء نظرية المعرفة وعلم ما وراء الطبيعة، وكان رأي أغلب المشاركين أن علماء الأخلاق في -المعدل المتوسط- ليسوا أحسن من غيرهم سلوكًا، بيد أن علماء الأخلاق أنفسهم يميلون إلى عدم الإفصاح بذلك، وأظهرت النتيجة أيضًا أن تأكيد تلك النظرة التشاؤمية من العلماء الآخرون مقابل نفيها متساوية.
وقد نوّه المؤلفان أن هذه الدراسة ليست شاملة أو حتمية، ولكن نتائجهم ما تزال تركز على مسألة واضحة مفادها أن كثيرًا من الناس لا يجدون فارقًا في سلوكيات من يدرس فلسفة الأخلاق عن غيرهم. بل قد أجرى شفيتزجيبيل دراسة أخرى وثقها في ورقة بحثية عنوانها: "هل يسرق طلاب الأخلاق كتبًا أكثر من غيرهم؟" وأشارت النتائج التي توصل لها إلى أن كتب الأخلاق في مكتبة الجامعة معرضة للسرقة أكثر من الكتب الأخرى، مشيرًا إلى أن طلاب فلسفة الأخلاق قد يسيئون التصرف - في بعض الجوانب- أكثر من غيرهم! ويشير هذا إلى أن طريقة تدريس فلسفة الأخلاق غير ناجحة كما ينبغي؛ فمن المفترض أن تسمو فلسفة الأخلاق بدارسيها كما ذكر أرسطو.
وقد لخص شفيتزجيبيل وراست مخاوفهم في نهاية مقالتهم الأصلية بقولهم:
" نود أن نؤمن أن... التفكير الأخلاقي والأخلاق الفلسفية، إذا طبقت جيدًا، قد يكون لها تأثيرًا حسنًا على سلوك الناس، وربما تقودهم إلى السلوك الحسن، وإن كشف البحث التجريبي عكس ذلك بأن التفكير الأخلاقي الفلسفي لا نفع له وحده وربما يكون ضارًا، سفيتعين علينا أن نعيد النظر في افتراضاتنا عن علم النفس الأخلاقي، والتعليم الأخلاقي، ودور التفكير الأخلاقي على السلوك الحسن"
ومع ذلك فإن شفيتزجيبيل وراست لا يشيران إلى أن الفلسفة الأخلاقية غير مجدية، وانما يؤكدان أهمية إعادة تقييم طريقة تدريسها ودراستها.
هل تسمو بنا الفلسفة الأخلاقية؟
يقول مايكل في مسلسل The Good Place:"عندما تشتري الطماطم من البقالة فهذا يعني أنك -دون وعي- تدعم المبيدات الزراعية السامة، وتستغل العمالة، وتسهم في الاحتباس الحراري... يظن الناس أنهم يختارون خيارًا واحدًا، ولكنهم حقيقةً يختارون عشرات الخيارات بغير وعي منهم"
ينبغي أن تكون الفلسفة الأخلاقية إحدى أهم الموضوعات التي يمكن لأي فرد دراستها. وكما ذكرت شخصية مايكل في الاقتباس السابق، فإن العولمة، والتحول الصناعي، والرأسمالية والعديد من العوامل الأخرى هي التي تزيد اضطراب العالم أخلاقيًا. ولعله تحدٍ أن ينظر كل منا – من كان ضميره حيًّا- في الأثار الأخلاقية لأفعاله وعلى تأثيرها في الأخرين.
وحجتي هي كالتالي: إذا أصبحت الفلسفة الأخلاقية مجدية وحسنت أخلاقنا، فعليها أن تبدأ بتلك التحديات. إذ ينبغي عليها أن تعلمنا عن تأثيرات القضايا الحقيقية بتفصيلاتها. لتعكس معتقداتنا الأخلاقية وأفعالنا وعينا بالمعارف المهمة ذات الصلة.
فقد أمضيت ثماني سنين أُستاذًا للفلسفة (بعد ثلاث سنين من دراسة الفلسفة أكاديميًا)، ومن تجاربي وتجارب آخرين وجدت أن مناهج علم الأخلاق غالبًا ما تبدأ بنبذة عن ماهية الأخلاقيات وأسئلتها العامة وكيف نميز الصواب من الخطأ، وعرض تجارب فكرية لن تحدث أبدا في الواقع، وتطرح بعدها نظريات أخلاقية تاريخية عفا عليها الزمن دون أي إشارة لسياقاتها التاريخية. ثم يشرح الطلاب طريقة تطبيق تلك النظريات في أحداث افتراضية، وبتلك الطريقة نتعرف على النظريات الأخلاقية وفلاسفتها ومصطلحات تقنية لشرح المفاهيم الأخلاقية.
ولكن علينا أن نسأل: كيف سيساعد كل هذا في إصلاح أنفسنا؟
قُسمت فلسفة الأخلاق الى أربعة فروع، الأخلاقيات العليا: تدرس ماهية الأخلاق، والأخلاقيات المعيارية: وهي تحدد تصرفاتنا وتشرح أسبابها؟ والأخلاقيات الوصفية: وتتناول معتقدات الناس عن الصواب والخطأ، والأخلاقيات التطبيقية: وهي تطبيق تلك النظريات.
وتتاح للطلاب فرصة دراسة مسائل لها علاقة بحياتهم أثناء دراسة الأخلاقيات التطبيقية فقط، ولكن مستوى عمق هذه المسائل محدودة بسبب متطلبات دراسة فروع الأخلاقيات الثلاثة الأخرى، فالمعرفة المكتسبة غير كافية لأخذ تلك المسائل وحدها دون غيرها.
ثُم إن تلك النظريات التي درسها الطلاب ليطبقوها في تلك المسائل غالبًا ما تكون تاريخية، لذلك يُستحسن أن تُطبق على سياقاتها التاريخية المحددة.
لم تتشكل النظريات الأخلاقية التاريخية مثل النفعية والأخلاق الظرفية بمعزل عن بعضها البعض، فهي تعكس معتقدات مناصريها استجابةً للقضايا الأخلاقية في عصرهم. إنّ جيرمي بنثام (1832-1748) وجون ستيوارت ميل (1873-1806) هما من أسسا النفعية التقليدية، وكلاهما كانا نشطاء في الإصلاح السياسي ومتحدثين عن قضايا الحقوق مثل: الحاجة للديموقراطية، وحقوق الحيوان، ومناهضة الرق، واقتراع المرأة. وخصوصًا ميل الذي تحدى قانون عدم أحقية المرأة في التصويت لأن أزواجهن هم من يمثلوهن.
وبيّن أنّ النفعية -التي تدعو إلى تعظيم السعادة الكاملة- تعارض قانون كهذا. كان جوزيف فليتشير (1991-1905) مؤسس نظرية الأخلاق الظرفية، ورائدا في مجال الأخلاقيات البيولوجية وأدى تفكيره إلى اتباع نهج أكثر تحررًا وأقل قسوة إزاء المسائل الأخلاقية مثل الإجهاض وعلاجات الخصوبة، كانت نظريته (الأخلاق الظرفية) تشجع الناس على عدم الانقياد الى الطاعة التامة للأوامر الأخلاقية، بل بدافع الحب تجاه الآخرين، ولكن في الفلسفة الأكاديمية تُدرس النظريات الأخلاقية بمعزل عن سياقاتها وتُطبّق على مسائل لا تنطبق عليها تمامًا، لهذا قلت إن النظريات تلك عفا عليها الزمن، ولكنها لم تُستبدل بمناهج جديدة.
إن الأسئلة المجردة البحتة يجاب عنها عادةً بأجوبة مجردة بحتة، فإذا أقصينا الواقع وسألنا أسئلة مجردة مثل، "كيف نميز الصواب من الخطأ؟" و "كيف ينبغي علينا أن نعيش حياتنا؟" وإذا أقصينا الواقع وأجبنا، فستكون الإجابات مجردة.
ونتيجة لذلك فإن المناقشات الفلسفية التي تقارن التفاضل والتكامل لبنثام والحتمية القاطعة لكانط، أو ما إذا كانت الأقوال الأخلاقية حقائق أو أنها مجرد تعبيرات عن الاعتقاد قد أصبحت نظرية بحتة دون أي تأثير في الحياة الحقّة، لذلك يُنهي الطلاب دراساتهم دون أي زيادة معرفية أو قيّمة للتعامل مع التحديات الأخلاقية التي يتعين عليهم مواجهتها.
ما الذي يجب أن يتغير؟
ينبغي أن تعين فلسفة الأخلاق دارسيها حتى يصبحوا أخيارًا، وربما فشلت في ذلك، ولكن التغيير ما يزال خيارًا أمامها، فقد تعيد فلسفة الاخلاق سمعتها وتصبح مادة مهمة وجوهرية، ولتحقيق ذلك، أقدّم فيما يلي مقترحات ثلاثة:
1 – لا ينبغي أن يكون هناك فرق بين "الأخلاقيات" و"الأخلاقيات التطبيقية"، فلا تكون الأخلاقيات التطبيقية فرع من فروع الأخلاقيات، بل يجب أن ينظر إليهما على أنهما أمر واحد.
2 – يجب أن تبدأ كل الدراسات الأخلاقية بقضايا من واقع الحياة بدلاً من تجارب الفكر الافتراضي وتعاريف واسعة للغة الفلسفة، والنظريات الأخلاقية التاريخية، وينبغي كذلك أن تستند القضايا الأخلاقية إلى مجموعة من المعارف الواقعية ليعي الطلاب الآثار المترتبة على آرائهم وأفعالهم.
3 – لا يجب أن تُدرس النظريات الأخلاقية التاريخية بمعزلٍ عن سياقاتها ولا أن تُطبق اعتباطًا على قضايا من واقع الحياة، بل يجب أن تكون في إطار سياقاتها التاريخية، وأن تستند معتقدات الطلاب الأخلاقية على استجاباتهم الشخصية للقضايا الأخلاقية الواقعية حتى يكون لديهم دافعٌ لتطبيقها.