الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 1:01 مساءً
هل يستعبدنا الترف؟
قررت فيليبا أن تنقطع عن وسائل التواصل الاجتماعي، خوفًا من الإدمان عليها بعد أن اقتنعت بأنها لم تنفعها بشيء، ولكنها ظلت تتساءل كيف ستتواصل مع خالتها التي تعيش في جنوب أفريقيا؟ وماذا سيحدث لكل صورها؟ وكيف ستُنظم الحفلة التي تنوي إقامتها؟
يريد تريفور أن يغادر بلاده، لعدم ثقته بحكومتها ونفوره من شعبها وكرهه لطقسها، ولكنه مع ذلك ما زال يتلقى فيها رعاية صحية جيدة، مستمتعًا ببرامجها التلفازية، وبشوارعها المنظمة.
فيليبا وتريفور مثالان حيّان على تأثير الرفاهية والتقنية وتسهيلات الحياة علينا بعد وقوعنا في فخها، وهذه ظاهرة حديثة تناولها بإسهاب الكاتب الروماني تاسيتوس، وناقش فيها كيف صرنا عبيدًا لزُخرف الحضارة بعد تحولها – دون أن نشعر- من وسيلة نافعة تحفظ لنا أوقاتنا إلى غاية أساسية لا نستغني عنها.
خطر الرفاهية الخفي
كان الجيش الروماني من أكثر الجيوش العسكرية تأثيرًا وقوة في العالم، وكانت جحافلهم لا تُهزم في الميدان، لكن القوى العسكرية والسيوف المسلولة وحدها لم تبنِ الإمبراطورية الرومانية، وربما تغلب الجيش الروماني على جيوش غيره لكنه لم يُخضعها، بل حب حياة الترف هو ما أسقطها.
أشار المؤرخ الروماني تاسيتوس إلى أن البريطانيين لم يُستعبَدوا بالأغلال والسلاسل، وإنما بحبهم للنبيذ الفاخر وحفلات العشاء الراقية، وقد اجتهد حاكم بريطانيا أغريكولا في صرف مجتمعه البريطاني القبلي المتعصب إلى الملهيات مثل: الحمامات الساخنة وثياب التوغا الرومانية والتعليم، وقد كتب تاسيتوس: "ظن البريطانيون الساذجون أن هذه الأمور وجه من وجوه الحضارة، ولكنها طريقة مثلى لاستعبادهم."
حولت الراحة ووسائل الرفاهية المحاربين البواسل إلى مدنيين مسالمين، ولعل تاسيتوس بالغ في وصفه هذا؛ فلم تكن بريطانيا خاضعة أبدًا كما كانت فرنسا وأسبانيا في حكم الإمبراطورية الرومانية.
تكررت خطة الاستعانة بالرفاهية لإخضاع الشعوب مرارًا وأثبتت فاعليتها على مر التاريخ.
وقد حاولت الإمبراطورية البريطانية مواجهة عجزها المادي في تجارتها مع الصين بنشر أفيون هندي رخيص الثمن بين الصينيين، حتى أضحى هذا الترف إدمانًا فكانت الصين تقايض بريطانيا ببضائع ثمينة كالخزف والشاي والحرير للحصول على الأفيون.
كانت الرفاهية سببًا كذلك في إنهاء الحرب الباردة وانتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتي، عندما سوقت أمريكا صناعاتها المختلفة من أجهزة تلفاز وثلاجات وصدرتها إلى الاتحاد السوفييتي، ولأن الشعب السوفيتي عجز عن منافسة الصناعة الأمريكية المترفة أصبح المصدر الوحيد لهذه السلع المنزلية الفاخرة الأساسية هو الولايات المتحدة.
وأكثر مثال يجسد واقعنا اليوم هو علاقتنا بشركات التقنية الكبيرة، مثل فيسبوك، وأبل، وجوجل التي تربط حياتنا شيئًا فشيئًا ودون توقف بخوارزمياتها ومنصاتها، بعد أن صُمّمت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم لتشغلنا، ونجد الأمر ذاته في المنصات التي تقدم تخدمنا وتوفر لنا الوقت و المال كمنصات التخزين السحابي (لتخزين البيانات على شبكة الانترنت) التي انتشرت انتشارًا هائلًا اليوم بين الناس وأصبح التخلي عنها مستحيلًا، وما يزيد الأمر سوءًا هو اعتمادنا الكلي على هذه الأجهزة والتطبيقات فنستبدلها بعقولنا ونحفظ أحيانا كلمات مرور حساباتنا فيها بدلاً من الاعتماد على ذاكرتنا.
لا يمكنك التحرر من قيود الآلة
إنّ أي تقنية أو خدمة جديدة في الغالب تكون في بدايتها نوع من الرفاهية، ثم تصبح شيئا فشيئا ظاهرة طبيعية وتنتشر في كل مكان إلى أن تصبح شيئًا في حياتنا لا غنى عنه، فيتحول ما كان (رغبة عابرة) إلى (حاجة ملحة).
عندما أنظر إلى العالم الخيالي الافتراضي الذي رسمه إ.م.فورستر في روايته القصيرة الآلة تتوقف "The Machine Stops" - والتي يعتمد فيها المرء على الآلة في كل أموره، ويستعين بها لطلب الطعام وتشغيل الموسيقى واختيار الملابس وحجز الحمامات الساخنة وشراء الكتب والتواصل مع الأصدقاء- أتساءل: إلى أي مدى صار عالمنا اليوم يشبه ذلك العالم الخيالي؟ فعندما ننظر في أنفسنا، نجد أننا محاطين بتطبيقات مثل، أوبر وسكايب وهيلو فريش وأمازون برايم في كل مكان بل أصبحت الآلة أساس علاقاتنا بأصدقائنا وعائلاتنا.
هل التحرر من قيود الآلة ممكن؟
مع أننا نرى التقنية سبيل إلى الحرية، إلا أنها في حقيقتها سجن يحبسنا، ولو أمعنا النظر فيما قاله تاسيتوس، فسندرك أننا عبيد لأشياء كنا نظنها رفاهية، وهذه هو دور الفلسفة؛ ترينا حقائق الأمور.
حري بنا النظر في حياتنا والاختيار ما بين أنّ نحيا مكبلين بأصفاد الرفاهية أو أنّ نشق طريق الحرية الطويل والشاق.