الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 12:48 مساءً
ترجمة: وصايف البوعينين، سلامه اليماني، دانه البوعينين، ياسمين آل ربح، خلود الدوسري.
بدأت شركة خطوط بان أمريكان بتقديم أول خدمة منتظمة للطيران النَّفَّاث عبر المحيط الأطلسي في شهر أكتوبر من عام 1958. كانت الطائرة النَّفَّاثة سريعة بالفعل مقارنة بأشكال السفر الأخرى، ففي عام 1946 أصبحت الرحلة من نيويورك إلى باريس تستغرق حوالي 20 ساعة عبر المحيط الأطلسي، بعد ما كانت تستغرق أربعة أيام ونصف. فقد استطاعت شركة بان أمريكان الجديدة بطائرتها بوينغ 707، والتي تعمل بالطاقة النَّفَّاثة وتتحرك بسرعة غير مسبوقة من 500 إلى 600 ميل في الساعة، أن تقلص مدة السفر عبر المحيط إلى سبع ساعات فقط وهي المدة المتعارف عليها حتى اليوم.
يبدو أنَّ سرعة الطائرة النفاثة الفائقة تجسد للبعض لحظة تاريخية. قال أحد المؤلفين في عام 1959: "يتميز كل جانب من جوانب عصرنا بالتغير ... الطائرة هي الرمز الذي يصف هذا التحول ببلاغة". وقد أُصدر الفنان فرانك سيناترا (Frank Sinatra) في شهر يناير من عام 1958 ألبومه الجديد بعنوان "حلقي معي"، ولكنّ الفنان عبّر عن استيائه من غلاف الألبوم لأنه يشبه ملصقاً إعلانياً لشركة خطوط عبر العالم الجوية (TWA) . تدور أغاني الألبوم حول مواضيع السفر، كما تشير كلماتها إلى مجموعة من الأماكن النائية مثل هاواي وباريس وكابري، ولكنها لم تتطرق أبدًا إلى مدى سرعة الوصول إليها، بل اكتفى سيناترا بوعد الأحبة من خلال أغنية حلقي بأن يحلّق بهم بعيداً في السماء وينقلهم بكل انسيابية إلى أراضي بيرو. وجاءت كلمات الأغنية مؤكدة على جودة طيران الطائرة الذي كما وصفه طبيعي وسلس حتى أن المسافر لا يكاد يشعر بأن الطائرة تتحرك. لقد كانت هذه الأغنية مُنَاسِبَة للفترة ما بين منتصف الخمسينيات إلى نهاية الستينيات تقريباً، والتي عرفت فيما بعد باسم عصر الطائرات النَّفَّاثة.
غلاف ألبوم حلقي معي (1958). الصورة مقدمة من المؤلف وتسجيلات كابيتول(Capitol).
أحدثت الطائرة النَّفَّاثة زيادة في الطاقة الاستيعابية للطائرات مما أدى إلى انخفاض أسعار الرحلات وازدهار الطيران. ولقد جذبت سرعتها الناس وخاصة رجال الأعمال والسياح لأنً الرحلات القصيرة توفّر عليهم الكثير من الوقت. ولذلك توقع العاملين في صناعة الطيران المزدهرة ورجال الأعمال الذين توسعت رحلاتهم كثيراً بأنّ المسافرين سيفضلون التنقل بين العالم القديم والجديد عبر المحيط على متن رحلات الطيران بدلاً من الرحلات البحرية. لقد كانوا على حق، ففي وقت مبكر من عام 1958 كان عدد الأشخاص الذين سافروا عبر المحيط الأطلسي بالطائرة أكبر من الذين سافروا على متن السفينة. ممّا يدلّ على أن الطائرة النفّاثة قد خلقت أثراً اجتماعياً مهمّاً أدركه الناس الذين كانت الرحلة البحرية عبر المحيط تعدّ من أهم الرحلات الطويلة بالنسبة لهن، على أنَّ عصر السفر الجوي الجماعي في ذلك الوقت كان لا يزال على بُعد عقد من الزمان.
إنَّ ما جعل الطائرة النَّفَّاثة مختلفة عن بقية الطائرات ليس سرعتها فقط، فلم يكن الناس يريدون السفر داخل ذلك الأنبوب المعدني الذي يندفع بسرعة تزيد عن 500 ميل في الساعة للوصول إلى وجهاتهم بسرعة فحسب ولكن لأنهم كانوا أيضًا يحبون الطريقة التي تتحرك بها الطائرة. في أحد أشهر إعلانات بوينغ في تلك الفترة، ظهرت صورة أم وطفلها الصغير وهم يحلقون على متن طائرة بوينغ 707 في جو منزلي مريح. وعد أصحاب الشركة المصنعة للطائرة بأنَّ المسافرين سيتمكنون من سماع دقات عقارب الساعة عل متن الرحلة ومن ورؤية العملة المعدنية متوازنة على الطاولة لأن الطائرة ستحلق بهدوء وبدون أي اهتزازات في سماء صافية خالية من أي تقلبات جوية على حد تعبيرهم. وأما الزهرة - والتي ترمز مجازيًا إلى الأم بلا شك ـ فستبقى نضرة طوال الرحلة. وبذلك فالإعلان يسلط الضوء على جودة طيران الطائرة بدلًا من سرعتها. لقد صور هذا لإعلان تجربة فريدة من نوعها وهي السفر إلى مكان بعيد في وقت قصير في حين تبدو وكأنَّك لم تخرج من منزلك المريح على الإطلاق.
إعلان لشركة بوينغ من عام 1985. الصورة مقدمة من المؤلف.
في عام 1954، وعد محرر مجلة نيوزويك المسافرين بأنَّ من يركب الطائرات الجديدة سيشعر وكأنه يطير في الفضاء بلا اهتزاز ولا تمايل، وبدون أن يشعر بسرعة الطائرة الهائلة. باستثناء حركة المحرك الذي يعمل بالمكبس، فإن الرحلة كانت هادئة ولم تمر الطائرة سوى بالقليل من الاهتزازات التي لا تخلو منها أي رحلة جوية. وفي عام 1959، أكد كتيب الخطوط الجوية الأمريكية، الذي وُضع على كل مقعد على متن طائراتهم النَّفَّاثة، على ما يلي:
لن تشعر بالسرعة على الإطلاق على متن طائراتنا النَّفَّاثة، فرحلاتنا سلسة بشكل يختلف عن أي وقت مضى. لن تشعر بالاهتزاز الذي كان السبب الرئيس لإرهاق السفر، ولا بصوت المحرك المزعج. لن تسمع سوى صوت الهواء الذي يتحرك في الطائرة. لا نجد الكلمات التي يمكن أن تصف لك ذلك الشعور المبطّن والمغلّف بالراحة والذي لن تعرفه إِلَّا على متن طائرتنا النَّفَّاثة.
كما قدمت الكتيبات الإرشادية ككتيب فودور وعوداً مماثلة: ستجد أن الطائرة تقلع بانسيابية وترتفع بثبات، ومع العلم بأن محرك المكبس وحتى الطائرات ذات الدعامة التوربينية لا تحتوي على ... ولن تشعر مطلقًا بالاهتزاز والضوضاء المرهق.
في الواقع، تُحدث الطائرات النَّفَّاثة صوتًا مزعجًا عند الإقلاع والهبوط يسمّى بأنين الطائرة النَّفَّاثة، والذي أصبح فيما بعد السبب الرئيس للتلوث الضوضائي الذي اشتكى منه سكان المناطق السكنية القريبة من المطارات، وهو أحد الأسباب التي تؤدي إلى تخصيص مسارات محدودة للطائرات الأسرع من الصوت . لكن فكرة ركوب الطائرة مع الشعور بالراحة وكأن المسافر لم يغادر منزله -الشعور بلا شيء - يتحدى منطق الجودة السريعة للنقل. كما أوضح ميلتون روبرتس (Milton Roberts)، وهو رجل أعمال في سان دييغو: "ركوب الطائرة يشبه الجلوس على أريكة؛ إنَّهُ شعور رائع لم أكن أتوقع بأنّ الدرجة السياحية في طائرة 707 مريحة للغاية". وأضاف راكب آخر، فلورنس فيتا (Florence Vita) من لوس أنجلوس: "هذه الرحلة رائعة. ولكنني لا أستطيع أن أصدق بأننا نتحرك، لماذا تبدو الطائرة وكأنَّهَا لا تتحرك!".
نستخدم تاريخ النقل في كثير من الأحيان كعدسة تساعدنا في رؤية وفهم تنظيمات كبيرة مثل التجارة وبناء الدولة والسياسات الدولية. ولكن كما يشير الظهور الأول للطائرة، فإن تاريخ النقل يمكن أن يساعدنا أيضًا في فهم التغييرات التي تطرأ على التجارب الذاتية. فلقد أكد المؤرخ الثقافي وولفجانج شيفلبوش (Wolfgang Schivelbusch)، في كتابه الرائد ذا ريل واي جيرني (The Railway Journey) (1977)، بأنّ النظر من نافذة القطار يشكل طريقة جديدة لرؤية ما حولنا، والتي أطلق عليها مسمّى الرؤية البانورامية، حيث أنّ الركاب لا يستطيعون التمييز بين الجزء الأمامي والخلفي للقطار بمجرد ركوبهم.
عندما نفكر كيف غيّر الطيران تجربة الفرد الشخصية، عادة ما يتبادر إلى أذهاننا بأن الطائرة منحتنا طريقة جديدة لرؤية العالم من الأعلى مختلفة عنمّا اعتدنا عليه من النظر من أعلى قمم الجبال والأبراج على سبيل المثال. كما وفرت الطائرات طرقاً جديدة للمراقبة التي ساعدت العمليات العسكرية كما ساعدت أيضاً العمليات التجارية والعلمية. ولهذا السبب عُدّت الطائرات شكلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية، فكل شيء ابتداءً من استخدام القنابل الجوية وحتى استخدام الطائرات بدون طيار يشير إلى مدى أهمية رؤية العالم من الأعلى من وجهة نظر استراتيجية. كما إن النظر إلى العالم من نافذة طائرة تحلق على ارتفاع منخفض كان سبباً في خلق أنماط جديدة من وعي الإنسان بكوكب الأرض، وإدراكه لأشكال البنية التحتية للمدن.
ولأن الطائرات كانت تحلق على ارتفاعات عالية معظم وقت الرحلة، لم يتمكن المسافرون إلاَّ من رؤية شيء يسير من العالم تحتهم من خلال نوافذ الطائرة الصغيرة. على أنّ الطيران على ارتفاع 30 ألف قدم يمكّن الفرد افتراضيَّا من رؤية أفق بمساحة 142 ألف ميل مربع، إلا أن المسافرون في الواقع لم يتمكنوا إلاّ من رؤية أشياء بسيطة أقل حتى ممّا كانوا يشاهدونه من قبل. إن نوافذ الطائرات كانت صغيرة الحجم بسبب الضغط الجوي، كما كانت أقل من عدد الركاب، حيث كان يركب أربعة أشخاص فقط في الصف الواحد من طائرة بوينج 707، ولهذا السبب لم يتمكن أغلب الركاب من الجلوس بقرب النوافذ ومشاهدة أي منظر من الأعلى. ولذلك قدمت شركة بان أمريكان أول طائرة بوينغ 707 بنوافذ مظللة، وبدأت شركة خطوط عبر العالم الجوية وشركة الخطوط الجوية المتحدة (United Airlines) في عام 1961 بتقديم الخدمات الترفيهية على متن الطائرة باستمرار، وبذلك استطاعوا أن يوجهوا أنظار المسافرين إلى ما هو داخل الطائرة وليس إلى العالم خارج فتحاتها الصغيرة.
عندما كتب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes) عن الطيار الذي اختبر الطائرة النَّفَّاثة في مقالته الرجل النَّفَّاث (The Jet-Man) (1957)، أكد على أنّ هؤلاء الطيارون يفقدون الإحساس خلال الطيران: الرجل النَّفَّاث ... المعروف بنظرية انعدام الحركة ("فعند الطيران بسرعة 2000 كم في الساعة، ينعدم الإحساس بالسرعة"). وفي عام 1967 وصف المصمم الصناعي جورج نيلسون (George Nelson) عزل الطائرة للركاب عندما قال بأنّ السمة الرئيسة للسفر الحديث هو عزل الشخص عن الشعور بالعالم الخارجي"، كما وصف السفر بالتجربة التي تنقلك عبر مجموعة من الأنابيب المترابطة، فكلما تحركت المركبة بسرعة أكبر، قل شعورك بالحركة كليًا، وذلك بفضل التصميم الذي جعل حركة الطائرة الآلية طبيعية جداً حتى أننا لا نقول بأنها تشبه حركة الإنسان بل إنها تماثلها فالفروقات بين الآلة والبشر أصبحت تتلاشى تدريجيًا. و في عام 1966 قال أحد الركاب، في مقابلة معه حول السفر بالطائرة النَّفَّاثة: "الطائرة هي إنسان بجناحين". أيّ وصفٍ لانسيابية حركة الطائرة قد يكون أدق من هذا؟ يبدو أن الإنسان والآلة قد أصبحا شيئًا واحدًا.
كانت مطارات عصر الطائرات النَّفَّاثة عبارة عن ممرات وتقاطعات، بنيت مع أخذ تقادمها بعين الاعتبار.
كانت الطائرة النَّفَّاثة رمزاً لعصر من العصور ليس لأنها منحت الناس منظرًا جديدًا من الأعلى، بل لأنها منحتهم آفاقاً جديدة وغيرت من تجربتهم الذاتية. لقد انتقل مفهوم عزل الطائرة النفاثة من الفضاء إلى الحياة على الأرض والذي شكّل إحدى جماليات عصر الطائرات النَّفَّاثة. لا تشمل هذه الجمالية الجوانب المألوفة للسفر الجوي مثل الديكور الداخلي للطائرات أو ملابس المضيفين أو الوجبات المقدمة على متن الطائرة أو الإعلانات التي أطلقتها الشركات للترويج لخدمة الطائرات النَّفَّاثة الجديدة أو فن المطارات، فكل هذه الجوانب هي أقرب إلى ما يمكن أن نطلق عليه بأسلوب التصميم، مع أنّ أسلوب التصميم يلعب أيضاً دوراً مهمّاً في الأسلوب الذي تعبر به جماليات العصر النفاث عن القيم والمعاني الرمزية.
أن تصبح الطائرة النفاثة رمزاً لعصر ما يعني أن الأمر لا يتعلق فقط بجمال شكلها وتصميمها، بل بالأثر الذي صنعته سرعة تلك الطائرة في كثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. في حين أن الطائرة بالفعل وفرت لنا فرصة السياحة الجماعية وساهمت في شكل من أشكال العولمة حيث أكدت الدول والشركات التي صنعت هذه الطائرات وبنت المطارات وشغّلت شركات الطيران، على ظهور خطوطًا جديدةً للسلطة والتي أعادت تشكيل الروابط بين الدول وسكانها حول العالم، فإنّ ذلك أيضًا ليس الإرث الأعظم الذي خلفته الطائرات النَّفَّاثة. إن الإرث الأعظم الذي خلفته الطائرات النَّفَّاثة هو تغيير التجربة الشخصية ذاتها، مما أدى إلى ظهور ثقافة من شأنها أن تخلق بما عرف بعدها ب "مجتمع الشبكة"، وذلك لأن الناس أدركوا بأنهم قادرين على التواصل دون أن يكونوا متواجدين في مكان واحد. وما كان ذلك إلّا نتيجة تبني المجتمع بشكل عام والفرد بشكل خاص لمفهوم حركة الطائرة النَّفَّاثة الانسيابية.
يظهر جمال عصر الطائرات النَّفَّاثة في المطارات الجديدة والمطارات المعاد تصميمها والتي بنيت خلال الفترة 1955-1962، مثل باريس أورلي، ولوس أنجلوس الدولي، ومركز خطوط عبر العالم الجوية للطيران في مطار جون ف. كينيدي في نيويورك، بالإضافة إلى المحطة الرئيسة في مطار دالاس الدولي خارج العاصمة واشنطن دي سي. تعتبر هذه المطارات أكثر رموز العصر ديمومة والتي جسَّد فيها المخططون والمهندسون المعماريون قيمة الطائرات النَّفَّاثة والتي تتمثل في نقل المسافر بسرعة كبيرة ولكن في حركة سلسة وكأنه لم يغادر مكانه، حيث شرعوا في تصميم أنواعاً جديدة من الأماكن والمساحات التي تتسم بالسلاسة والمرونة في أرجاء تلك المطارات.
لم تكن هذه المشاريع مجرد رموزاً معمارية على أنها دُرست بهذه الطريقة. فلقد ركز المخططون على مفهوم استمرارية رحلة الركاب ووضعوا نصب أعينهم سهولة التنقل كالهدف الأول الذي يسعى المطار لتحقيقه، فبدلًا من بناء بوابات ضخمة جديدة لتحل محل محطات القطار القرن التاسع عشر، صممت مطارات العصر النَّفَّاث على شكل ممرات وتقاطعات رغم قناعتهم بأنها ستتقادم في العمر وتعجز عن تلبية احتياجات المستقبل. فلم تكن تلك المطارات قادرة على استيعاب أعداد المسافرين المتزايدة، وتعرضت للانهيار في محاولتها مواجهة التوسع واستيعاب دخول التكنولوجيا الحديثة. كتب المهندس المعماري إيرو سارينين (Eero Saarinen) عند التخطيط لدالاس بعد مضي أكثر من عام على المشروع أنه لم يفكر في تصميم مبنى المحطة لأن طموحه الكبير وتركيزه كان على الصالة المتنقلة، وهي ما تصورها على أنها "غرفة واسعة معزولة عن الأدخنة والضوضاء" والتي من شأنها عزل الركاب ونقلهم مباشرة إلى الطائرات التي تنتظرهم في منتصف مدرج المطار.
لم تكن المطارات هي الساحات الوحيدة لتعزيز جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة. عندما أعيد افتتاح مطار لوس أنجلوس الدولي(LAX) بعد إعادة تصميمه في عام 1961، قال رئيس إدارة الطيران الفيدرالية نجيب حلبي (Najeeb Halaby): "سيكون لديك أول صالة مطار صمّمت خصيصًا لعصر الطائرات النَّفَّاثة وقد حقق بعض الشهرة العالمية، وبعض الإشادة الدولية كتلك التي حققتها ديزني لاند- من يدري -."
رسم فريق المهندسين المعماريين، ويليام بيريرا (William Pereira) وتشارلز لوكمان (Charles Luckman)، أول خطة لديزني لاند (الخطة المرفوضة) بدعوة من والت ديزني خلال تصميمهم لمطار لوس أنجلوس الدولي. عندما أكمل الخطة مجموعة من الأشخاص والذين عرفوا باسم اماجنيرز (imagineers)، أصبحت ديزني تمثل جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة: جعل الحركة بحد ذاتها تجربة جميلة وممتعة وسهلة. لقد أصبح التنقل السلس شيئًا يمكن رؤيته حول المتنزهات في الوقت الذي كانت فيه القطارات والقوارب والطائرات والصواريخ تروي تاريخ النقل كتاريخ للتطور. وقد وضعت مركبات النقل الزائرين في حركة مستمرة صمّمت بطريقة تسمح للناس بالتنقل دون أن يشعروا به. لم تكن ديزني لاند أبدًا متنزّهًا مخصصًا للترفيه فقط، بل أتاحت ديزني لاند للزوار التحليق فوق لندن في مسار سلس، مماثل لركوب الطائرة النَّفَّاثة، حيث يوفر وسط المنتزه وتصميمه الدائري أقصى درجات الحركة السلسة. كان هدف المتنزه الذي أنشأه والت ديزني والعاملين في شركته التطويرية يتمحور حول مبدأ دفع الناس نحو المستقبل حتى أنهم أطلقوا على إنجازهم العظيم في إعادة تصميم أرض الغد (Tomorrowland) عام 1967 مركبة ديزني لاند (PeopleMover).
كما غيرت جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة التجربة الذاتية أيضًا من خلال الثقافة التصويرية في تلك الفترة، والتي تعززت من خلال نظام فيزيائي للدوران يعمل في الطائرة. وكما لاحظ الباحث الإعلامي مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) في عام 1964، أن الصورة خلقت عالمًا من التنقل السريع وكان عصرًا لا يختلف فيه السفر كثيرًا عن الذهاب إلى السينما أو تقليب صفحات مجلة ما، فقد تطور التفكير بأن الصورة قد هيمنت على العصر طوال القرن، منذ ظهور التكنولوجيا المنتجة مثل الطباعة الحجرية والتصوير الفوتوغرافي، واكتسبت قوة جديدة مع ظهور الإعلانات والعلاقات العامة من ناحية، والدعاية في زمن الحرب من ناحية أخرى. ويعتقد الفنانون والمثقفون كالذين ارتبطوا ببوهوس (Bauhaus) بأن الفكرة نفسها كانت منظمة بصرياً على مبادئ جشطلت (Gestalt principles) في أوائل العشرينيات.
"ننظر إلى المرآة بدلًا من النافذة، ولا نرى سوى أنفسنا"
لعبت المجلات الإخبارية المصورة والتي غالبًا ما كان يستخف بها المؤرخون باعتبارها أدوات استهلاكية عفا عليها الزمن دورًا مُهِمًّا في إبراز جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة. فقد أصبحت الأداة الرئيسة لما أطلَق عليه محرر صور مجلة لايف (Life) والمحرر التنفيذي النهائي ويلسون هيكس (Wilson Hicks) في عام 1952 عصر الصورة المرئية. وقد جلب الرواد في مجال التصوير الصحفي كالمصور إرنست هاس جمالية عصر الطائرة النَّفَّاثة إلى صفحات مجلة لايف، حيث استخدم هاس الألوان والضباب ليعبر عن التوتر بين حركة الكائنات الحية والتقدم السلس للآلات. كما استغل لمصور هاس حتى الأنشطة الغامضة كمصارعة الثيران ليتلاعب بعدسة الكاميرا، مما ممكنه من إتقان تصويرأجسام تتحرك بسرعة فائقة بكاميرا ثابتة ليخلق صورة ضبابية ليتوصل إلى ما أطلق عليه "التدفق المثالي للحركة".
من سحر الألوان في الحركة (The Magic of Color in Motion) من مجلة لايف، 11 أغسطس 1958. الصور الفوتوغرافية التي التقطها إيرنست هاس العظيم بإذن من المؤلف.
ربط المؤرخ دانييل بورستين (Daniel Boorstin) الصورة في كتابه ذا إيميج (The Image) (1962) بالأثر العميق الذي تحدثه الطائرة في النفس البشرية:
أحدث وأشهر وسائل نقل الركاب إلى المناطق الأجنبية هي أكثر وسائل العزل المعروفة لدى الإنسان.. فأنا لم أسافر عبر الفضاء ولكن عبر الزمن.
كما عبّر بورستين عن استيائه من عدم شعور المسافرين بحركة الطائرة النَّفَّاثة موضحاً بأن ذلك لم يؤدي إلى شعورهم بالملل داخل الطائرة فحسب؛ بل جعل أيضًا الجيل الجديد يفقد إحساسه بالتاريخ، والذي اعتبره وسيلة لفهم كيف يوجد الزمن عبر الفضاء. وفي ختام كتابه وضح بورستين بأن الطائرة النَّفَّاثة عكست مهام المجتمع الإعلامي، وشاركت في خلق أحداثه ومشاهده الزائفة: "إننا ننظر إلى المرآة بدلًا من النافذة، ولا نرى سوى أنفسنا". على أن من أن بورستين لم يعارض صناعة الطائرة النَّفَّاثة إلاً أنه توقع بأنها سوف تخلق مجتمعاً نرجسياً، فهو يرى بأن تأثيرها على المجتمع كان أكبر بكثير من تأثير سرعتها في خلق السياحة الجماعية. إنّ الطائرة النَّفَّاثة كما يراها بورستين عبارة عن رحلة جديدة في حياة البشرية وليست مجرد وسيلة نقل لمناطق أبعد في وقت أقصر.
وبالتالي، فإن معرفة جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة يسمح لنا بفهم العولمة على مستوى التجربة الذاتية، فقد ربط عدداً من منظري وسائل الإعلام مثل ماكلوهان (McLuhan) وجورج سيميل (Georg Simmel) ووالتر بنجامين (Walter Benjamin) التغير البشري الحسي بتقنيات الإعلام. حيث شكلت البيئة الإعلامية الهائلة في المساحات الجديدة مثل المطارات المعاد تصميمها وديزني لاند وفي الصور التي يتداولها الناس عبر وسائل الإعلام من مجلات وأفلام وتلفاز والتي خلقت نظامًا متيناً صنع جمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة وأعاد تشكيل التجربة الذاتية في العصر العالمي. لم تكن الطائرة النَّفَّاثة وأشكال الإعلام هذه أو بالأحرى وسائل النقل والتواصل هذه مجرد عالماً موازياً، فقد شاركوا معًا في تكوين أشخاص قادرين على العيش في مجتمع الشبكة، وذلك ليس فقط من خلال تسهيل عملية التنقل للأشخاص والبضائع عبر الجو، ولكن كنوع مختلف من التجربة الإنسانية.
لقد تعلم الأشخاص في عصر الطائرات النَّفَّاثة تقريب المسافات بين المكان والزمان الماديين، والتبديل بين العوالم المادية وغير المادية من خلال التنقل بين مجموعة من المناطق المبنية حديثًا ومواجهة ثقافة وسائل الإعلام المعاصرة من أواخر الخمسينيات إلى أواخر الستينيات. لقد انتهى عصر الطائرات النَّفَّاثة، ومع ذلك لم يسبق لأي شكل من أشكال النقل المنتظم بأن يتفوق على سرعة الطائرة النَّفَّاثة. نعم انتهى ذلك العصر ولكنّ أثره باقٍ إلى اليوم فقد ساهمت جماليته في تغييرنا وتهيئتنا لعالم الشبكة الذي نعيشه في عصرنا الحالي. ولكم إذا نظرنا إلى العصر النَّفَّاث على أنه قصة تتعلق بالتفاؤل والإثارة في رؤية السفر الجوي ذاته على أنه مجرد وسيلة نقل مريحة، فسندرك بأن عصر الطائرات النَّفَّاثة قد انتهى منذ أبدٍ بعيد.
يمكن لأحدنا أن يرى رواية "المطار" لآرثر هيلي (Arthur Hailey) وهي الرواية الأكثر مبيعًا في عام 1968 ونسختها السينمائية التي حققت نجاحًا باهرًا في عام 1970، في الوقت الذي كانت فيه تذاكر فيلم "قصة حب" متصدرة شباك التذاكر. ويشير ذلك إلى التغير الذي طرأ عل تفكير عامة الناس والذي بدا ملحوظاً منذ دعوة سيناترا لهم للتحليق معه. ويحكي فيلم "المطار" قصة طائرة خيالية، يقلها عدداً من المسافرين من بينهم متسلل مسن ومجنون يحمل قنبلة وهمية يهدد بقتل كل الركاب، وطيار ومضيفة في علاقة غير شرعية. وفجأة يدب الرعب في السماء وتتعرض الطائرة إلى عاصفة ثلجية قوية أعاقت قدرة فريق المطار على إخلاء المدرج من الطائرات المتراكمة حتى تستطيع طائرة 707 الهبوط بسلام. وفي تلك الأثناء كان نشطاء المجتمع الذين كانوا يشتكون من صوت الطائرات المزعج قد تسببوا في إغلاق المدرج الثاني والوحيد في المطار. فيلم كهذا هذا يمكن أن يستخدم أغنية "حلقي معي" فقط كنكتة سخيفة، فلم يكن هناك شيء ساحر ولا سلس على متن تلك الرحلة.
سافر الناس جوًّا بطريقة جديدة لم يكونوا يعرفوها من قبل وذلك بالمقابل غيَّر كيف يعيش الناس حياتهم على الأرض.
لقد خابت توقعات العامة بشأن سهولة التنقل في السنوات الأولى من عصر الطائرات النَّفَّاثة بسبب فشل المطارات في تلبية متطلبات الأشخاص الذين يتنقلون على الأرض، وأدت حرية الحركة أيضًا إلى فترة ذروة اختطاف الطائرات، على أنّ أول عملية اختطاف لطائرة كان في عام 1961، إلا أنَّ الفترة من 1967 إلى 1972 تشكل ذروة عمليات اختطاف الطائرات، ولا يزال الرعب في السماء أحد أعظم أشكال العنف السياسي والاجتماعي المستخدمة في وقتنا الحالي. لا شك أن المطار الجديد الخاضع للسيطرة الأمنية هو استجابة ملموسة لرؤية عصر الطائرات النَّفَّاثة المحدودة لمفهوم الحركة الانسيابية وتجربة نقل الأشخاص في الفضاء الحقيقي.
ولكن التركيز على المطارات، أو القول بأن عصر الطائرات قد فشل، أو التفكير فقط فيما إذا كان السفر بالطائرة لا يزال ساحرًا أو لا، فجميعها تهمش الإنجاز الأكبر لجمالية عصر الطائرات النَّفَّاثة، والذي لم يكن مجرد تنقل الأشخاص بين المطارات أو التحليق على متن الطائرات. إن جمالية عصر الطائرات تكمن في اعتبار النقل الجوي جزءًا من شبكة التواصل بين العوالم، عوالم التجارب الإنسانية والعالم المادي والصوري. ما أنشأته الطائرة كان نوعًا من الحركة التي سلط الناس الضوء عليها واحتفلوا بها لأنها سمحت لهم بالتنقل بسرعة دون أن يشعروا بحركتها. خلقت هذه الجمالية أشخاصًا قادرين أكثر على الجمع بين العالم الحقيقي والعالم الصوري وعلى رؤية التشابه بين المجال البشري والمجال التكنولوجي وعلى الشعور بالارتياح وليس القلق عندما يتحدثون عن أنفسهم كشهود على عالمهم المتغير. جاءت الطائرة النَّفَّاثة لتميز عصرها بالكامل لأن تأثيرها امتد ليشمل وعي الفرد نفسه. سافر الناس جوًّا بطريقة جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل وذلك بالمقابل غيَّر كيف يعيش الناس حياتهم على الأرض.
بحلول الستينيات، بدأ مفهوم "مجتمع الشبكة" في الظهور كمفهوم مألوف بين علماء الاجتماع، وأُدخل من ذلك الوقت في معظم مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. فعلى سبيل المثال، عرَّف عالم الاجتماع مانويل كاستيلس (Manuel Castells) الترابط، وخاصة تلك التي توجد في وسائل الإعلام والاتصالات السلكية واللاسلكية كأساس للتفاعل والتنظيم الاجتماعي المعاصر. لقد حل الوجود الافتراضي محل الوجود المادي وباختصار نستطيع أن نقول بأن مجتمع الشبكة هو إحدى بذور جمالية العصر النَّفَّاث.
ليس غريبًا أن تستمر مظهر جمالية الطائرات النفاثة بالظهور في الثقافة الشعبية للقرن الحادي والعشرون والتي يمكن أن تراها في فيلم "أمسكني لو استطعت" (2002) أو مسلسل "رجال ماد" التلفزيوني (2007)، أو في محطة خطوط عبر العالم الجوي في مطار جون ف. كينيدي الدولي والتي حُوّلت في عام 2019 إلى فندق رائع ليأخذ النزلاء إلى ذروة عصر الطائرات النَّفَّاثة. والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى الحنين إلى المظهر الأنيق لعصر سابق -الذي أصبح الآن غريبًا بل ويدعو للسخرية- وأيامه الذهبية التي كانت تبعث التفاؤل بأن المستقبل سيكون أفضل، بل لأن وجود مثل هذه المراجع الثقافية يذكرنا بأنها ركيزة حاضرنا اليوم. لم تختفي اليوم الحواجز المادية والحركة الجسدية كما تصور أولئك الذين يعيشون في عصر الطائرات النَّفَّاثة، ولكنها الآن أصبحت بمعنى افتراضي أعمق والذي يمكن أن نراه في تدفق الصور والكلمات عبر وسائل الإعلام الحديثة التي تعرض علينا محاكاة التجربة وليس مجرد تصويرها. يشكل الإنترنت وبنيته التحتية الوسيلة الإعلامية الأبرز للتنقل السلس والسريع دون أي مجهود، إنه يجسّد الأثر الذي تركه عصر الطائرات النَّفَّاثة، ويفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم تجاربنا ونحن لم نتحرك من أماكننا خطوة واحدة.