الإثنين , 07 أكتوبر 2024 - 4 ربيع الثاني 1446 هـ 8:49 مساءً
إن في الأدب كما في الطّب شفاءً للنّاس.
كان فريزر جنديًا من جنود أفغانستان، عاد إلى بلدته وأمضى فيها خمسة عشر عامًا يتوهّم نيران المباني ورصاص الأسلحة، لم يكن عنده عمل يشتغل به، قليل الخروج، مضطرب النوم، ومنذ تقاعده من الجيش ما وقع بحب امرأة، لكنه كلما أراد أن يخفف من عبء نفسه؛ جرح ذراعيه. وهو مع ذلك صحيح البدن، مفتول العضلات، لكن الأوجاع أناخت به؛ فهزل جسمه وقلّت عنايته بنفسه واهتزت ثقته بها، لم ينفع معه علاج يخفف عليه ما يقاسيه، كان يأتيني العيادة كل شهر يكاشفني عما يدور في صدره، يجلس على طرف الكرسيّ يمسح عرق جبينه بيديه فأسدي إليه بعض النصائح.
جاء إليّ مرة وأنا أقرأ كتاب إعادة الانتشار لمؤلفه فل، وهو كتاب قصصٍ عن الجنود في الحرب الأمريكية العراقية، وليست أخبار الكتاب كالمعاينة، إلا أنها مهّدت لي سبيلًا للحديث معه، ومنها أخذ حديثنا مسارًا آخر نقلّب فيه أطراف القصص وأخبار الكتاب، وعرضتُ عليه قراءة الكتاب عند إتمامي إياه، لاطمئنان رأيته فيه عن ما أخبرته عنه، فآنست حينها بأن بعض أخبار الكتاب ستعينه وإن استغرق شفاءُه زمنًا طويلًا.
قيل بأن الأدب طريق إلى معرفة الإنسان لما فيه من تصوير حياة النّاس وخاصة ممن تختلف حياتهم عنّا، فنشفق عليهم، وتهون علينا عندئذ المصيبة، وتتوسّع آفاق عقولنا، والقول نفسه عن علاج المستشفيات بأشكاله كلها: من التمريض حتى الجراحة، ومن العلاج النّفسي حتى العلاج الطبيعي، فقد يدرك الإنسان بالأدب ما يعينه على الاشتغال بالطّب، كما أعانتني تجربتي في الطّب على الاشتغال بالكتابة والتأليف، فهما متآزران متجانسان لا متنافران.
وإن المريض ليجالس كاتبًا أطول من مجالسته طبيبًا؛ فتراه يقلّب النظر في بيانه متأمّلًا فيها آملًا في الانتفاع، وكم واست أخبار كتاب فِل فريزر، مؤنسة حَيْرته ووحشته، لقد أهداني الأدب بصيرة بحالة الرجل، وكثيرة فيه الكتب النافعة المؤثرة في أحوال الناس؛ ككتاب ويليام ستيرونز ظلامٌ مرئي عن اكتئاب الإنسان الذي انتفع منه ستيرونز وقد استلمحت منه تشجيع المكتئب بشفائه القريب، وكتبٌ أخرى كثيرة قد تحدّثت عنها مع المرضى الذين يزورون عيادتي، ككتاب الكهرباء، لروبنسون عن الصّرع، وفيلم: الوفرة، لديلارد عن حالة البحث عن استقرار الحياة، وكتاب: بعيد عن الشجرة، لسولومن، عن رعاية طفل معاق، وقصيدة: إلى صديق إنجليزي في أفريقيا، لأوكري، عن تجارب وجوائز عمل المنظمات غير الحكومية.
إن شبهًا كبيرًا بين إخبار القصص وإبداع الفنون وتقديرها وبين إعانة المريض وتقدير العلاج، فكلاهما تقمصٌ لحالة الإنسان، من فضول المعرفة إلى التعرّف عليه وسبر أغواره، والإحساس بما يكون فيه من مأزق، والاتّعاظ ممّا يمر به، فمثل الكاتب كمثل الطبيب يجتهد في عمله كي يفطن لأحوال النّاس في سياقات مجتمعهم.
إذا كانت قراءة الأدب تجعل الطبيب ماهرًا حقًا، والأدب معين للطب، فهل في الطبّ ما يكون أدبًا؟
إن قصص الأطباء هي نبض المجتمع، بل إن عملهم لا يختلف عن عمل الكهنة قديمًا، فهم المطّلعون على تجارب الناس، والملتزمون بكتمانها، فقد كتب روبرت بيرتون مقارنة في كتابه "تشريح الكآبة" بين الكهنة والأطباء، يقول فيه: بأن الملك المقدّس هو الطبيب الصالح أو من يسعى إلى صلاح طبّه، ووصف الروائي الفرنسيّ رابليه بهذه الصفتين معًا، ومعروف عن أصحاب المهنتين في القرون السابقة أنهم ملاذ للناس وعون لهم، وفي ذلك كتب جون دون لبيرتون (وهو رجل متديّن) سلسلة تأملاته الشعرية الشهيرة الولاءات في المناسبات الناشئة بعد مرض فاتكٍ قرّبه من الموت، وقد كتب عن أثر استشعار الموت في الاقتراب من الناس؛ يقول:
إن موت الناس يخيفني، فنحن لا نعلم لمن تدقّ الأجراس، فلعلها كانت تنادي علينا.
وحريّ أن يكون الطبيب فطنًا ذا نباهة وفراسة، يتصيّد الكلم من أفواه مرضاه ويتفرّس سمات وجوههم، حتى يصبح مترجمًا وناقدًا لقصصنا المزيفة.
كتب آرثر كونان دويل في كتابه بأنّ الطبّ لا يقوم على الخيال فالحقيقة تتغلب على وهم الإنسان.
وإن في مسارات حياتنا ما يكون مشوشًا كالقصص والأفلام، بيد أن توابع ستكون منها كقصص تعلمناها في الحضانة أو شاهدناها على التلفاز، وجهد الأديب إحسان الإبانة كي يسمّي ويفصح عن أشكال تجاربه وخبراته لإدراك القارئ، وجهدُ الطبيب أن يخبر مريضه بقصته، ناعتًا له مرضه باسمٍ يصفه به، في محاولة منه إلى مواساته والتخفيف عليه.
اللغة ترياق الألم.
يستعمل البارع في الكتابة سحرًا بليغًا عند استعماله استعارة اللغة، فبها يُغيّر الاعتقاد ويفهم حياة الناس، كأصابع الفجر الوردي لهوميروس، وليلة الكتاب المقدس المظلمة لديلان توماس، وقدر ارتشاف الطبيب من استعارة الأدب قدر براعته في التلطّف إلى مرضاه، فإن استعصى عليه مثلًا علاج السرطان، وعدل عن رؤية حقيقته وحشًا مخيفًا عليه مجابهته وقتله، ورآه حالة نفسية يمرّ بها المريض، وأحسن استعمال المجاز؛ كان ذلك أنفع وأبلغ.
هذا ناتول برويارد، محرر كان يعمل في صحيفة نيويورك تايمز، شخّص بسرطان الشّرج، قال كان منهج طبيبه استعمال استعارات تهدّئه وتطمئنه حتى يتقبّل بها حالته، وقد كتب في كتابه مخمورًا بمرضي أن الطبيب في قدرته أن يستعمل ما شاء له، فقد قال له مرة : "لقد عبث الفن، بالجمال والحق، في جسدك"، ومرة قال له: لقد أنفقت نفسك كما ينفق فاعل الخير أمواله، أراد بروياردر أن يستعمل لغة يتسامى بها عن ذل المرض، وتعينه أن ينظر إلى هشاشة جسده كما ينظر السائحون إلى عظم آثار العصور القديمة، وهذا ماذهبت إليه إولا بس في تجربة شعرية حصيفة إذ وصفت جهاز المناعة عند الإنسان بأنه أقوى مناعة وصلابة من حديقة منيعة أو جماعة مسلحة.
ولا عجب أن تُستعمل استعارات الحرب بغية الشفاء، ولكنها قد تزعزع أفكار المريض - وتقدير الطبيب للقصص هو معيار الاستعمال وما الذي قد يعين مريضه على مرضه أو يساعده أن يفصح لطبيبه عن تجاربه. إن في اللغة التي نصف بها الألم مثالًا واضحًا نعيشه اليوم على رغبة الواحد منّا في استعارة الألم وتشبيهه، صف ما شئت من الألم: طعنة أم جرحًا، اضطرابًا أم وجعًا، لن تحسّ بألمها في أعصابك، وإنما في لغة الألم التي تصفه بها، فاللغة ترياق الألم.
وللطبيب الشاعر ويليام كارلوس ويليامز مقالة عنوانها التجربة يقول فيها أن صخب الطب وفروعه العديدة قد يكون إلهامًا متجدّدًا إذا عومل بروح تواقة، لقد أيقظ الطب كتابة كارلوس ويليامز؛ مما جعله عطوفًا يحسّ بالنّاس، وقد كتب في كتاب له عن مريض من مرضاه:
أليس الرجل يعنيني؟ ثمة شيء أمامي ألمسه وأشمه، به يكون المعنى، معنى أساسيًا يمكّنني من الإفصاح عن أمور عميقة يضنيني التفكير فيها.
وقد ذكر فرويد أن لرهافة اختيار الأطباء كلماتهم تأثيرًا على فهم الناس لأسقامهم وتقبّلها، يقول: إن أي طبيب يعالج نفسه علاجًا نفسيًّا دائمًا، حتى في غير نيّته وإدراكه، وقد تساءل عن فطنة الأطباء لجدوى استعمال الكلمات على المرضى، وإن كانت قد تضعف نشاطهم وتصرفهم عن استعمالها.
إن في جوهر عمل الأطباء والكُتَّاب لإرادة يتصوّر الإنسان منها حياته ويدركها، ويخفف من نفورها، بيد أن الكتاب والقرّاء يسرحون ويمرحون ما شاءوا في عوالم الخيال، يخلقون الشخوص وينسجون النصوص، خلافًا للأطباء الملزمين باليقظة والإدراك وحفظ الوقت حفاظًا شديدًا، ومن يسلّم نفسه لمعاناة المريض يعرّضها لإرهاق شديد، وهذا هو ميثاق فاوستيان في جوهر العقد بين الأطباء ومرضاهم - وخبرتهم الكبيرة في حياة الناس المختلفة، وهو ما يكون قليلًا خطره على الكتّاب.
يُستشهد في علم الأعصاب بأن الإنسان كلما تعاطف مع مريض في عقله أو جسده، تأثّر دماغه وأضحى كأنما هو العليل، ولذا تنتكس عواطف طلاب الطب - مبتدئين ومتقدّمين ومتقاعدين بقدر أعمارهم وخبراتهم، كما لو أن طبّهم أثقل عقولهم وعواطفهم. وقد ذكر أبراهام فيرغيز ذلك مرة بقوله أن ما نحتاجه في كليات الطب مع تعليم التعاطف هو الحفاظ عليه، وهو طبيب وروائي في جامعة ستانفورد.
إن في أعباء الطب ما يرهق بعض الناس، ولذا يكون عمل كثير من أطباء الغرب قليلًا بل ويستقيلون منه في باكورة حياتهم، بيد أن مهنة الطب متفرعة جدًا، وفيها من البصائر والإلهام والرضا والسلوى ما يندر أن يكون في مهن أخرى.
بعد اشتغالي بالطب قرابة عشرين عامًا، رأيت كيف أن الأدب والطبّ صفحتان متقابلتان.
ودّت سيلفيا بلاث في مقابلة لها مع هيئة الإذاعة البريطانية عام 1962 لو كانت طبيبة تختلط بتجارب الناس وتعالجهم وتضمد جراحهم وتساعدهم، وقد قارنت بين الأطباء وحذقهم للأمور العملية وبينها شاعرة، وتذمّرت من إحساسها كما لو أنها تعيش على الريح، وهي في طفولتها كانت تلهو مع الأطباء، وفي مراهقتها تذهب معهم إلى عمليات التشريح في غرف الولادة، لكنها استاءت من انضباط الطّب في تدريبه، وخشيتْ أن تكون أعباءُه ثقيلة جدًا عليها، فأعباءُه ثقيلة حقًا، وليس من مناص للطبيب إلا أن يتحمّلها.
لقد اشتغلت بالطبّ عشرين عامًا رأيت فيها أن الأدب والطّب صفحتان متقابلتان، وإنما مثلهما كمثل رجليْ الإنسان، بل إن في هذه الاستعارات عناء يشابه عناء الاشتغال بالطب، وهو ما يكون بذرة في الأدب. وها أنا أنظر في العشرين عامًا القادمة من اشتغالي فيه، وأعلم أن عبء أخباره سيضنيني ويرهقني، لكنني أتصورها أحجارًا صغيرة، وأتصوّر رقّة الأدب أشرعة الريح، وكم سيكون عالم الإنسان محيطًا واسعًا نبلغه إن مكّن للاثنين أن يكونا معًا.